ده اللي حصل لي إمبارح
كتير من اللي حصل قبيح، وأنا مش حاسة إني كويسة أوي دلوقتي , بس كان في حاجات إيجابية وقوية في التجربة دي كلها، على الأقل بالنسبة لي، علشان كده عاوزة أشاركها معاكم. أفكاري مش مترابطة أوي لكنهم رافضين يترابطوا ويدخلوا في أي إطار دلوقتي. أنا بس باحكي تجربتي لو عاوزين تشاركوا فيها
صباح الخير عليكم كلكم
غريبة أوي إنك تحس أو تكتشف وجعك تاني يوم بعد إصابتك. وغريبة إنك من خلال اكتشافك للوجع وللدرجات المختلفة من الألم والجرح المرتبطة به بتبدأ تفتكر وتدرك التجارب اللي وصلتك للحالة دي وللوجع ده
وساعتها بس بتعيش التجربة وأحاسيسها تاني من الأول...وكل المشاعر اللي حاولت تحطها على جنب بتطلع، وبتطالبك بإنك تتعامل معاها، وكل المشاعر اللي حاولت تتجاهلها بتشدك من إيدك علشان تنتبه لها وتديها كل اهتمامك
كلمة "حط رجليك على الأرض" مرتبطة عندي بمشاهد وأفكار كتير أوي. أول ما باسمع الكلمة دي باتخيل الرجلين واقفة بثبات على الأرض، الضهر مفرود، وكل دوشة وتفاهات الدنيا وراك. باتخيل نية صادقة، وإخلاص لقضية، وقتال علشان تحقق القناعات اللي بتؤمن بها. باتخيل الشرف، والكرامة، والحق، وراحة البال، وعادةً باتخيل النصر. لكن إمبارح، محاولة إني أحط رجليا على الأرض دي ماكانتش صورة حالمة كده. كان فيها إحساس كبير بالخوف، والذل، والصدمة، والإحباط، وغالباً الاحتقار. أما الشرف والكرامة والحق وراحة البال، فدول ضاعوا في معظم الوقت وسط الزحمة
جه عليا وقت حسيت إني عاوزة اخبي كل القيم دي جوايا، خصوصاً لما لقيت نفسي فجأة في موقف مافيهوش أي قيمة من القيم دي. في حجر صغير من الذعر جوايا بيهدد إنه يظهر وينفجر. بأحس بالحجر ده وانا بأفتكر إني كنت عمالة بأفكر "مش هيأذونا...مش هيأذونا...مش هيأذونا
حسيت بالحجر ده لما شفت المرارة والكراهية والغضب "السعيد" المتشفي في عيون الناس اللي ضدنا، مشاعر أنا ماليش أي دور فيها
بأحس بالحجر ده لما بأفتكر إن الناس اللي كانوا مصممين إنهم يأذوني هم نفسهم الدافع اللي مخليني حاسة إني محتاجة أحط رجليا على الأرض، علشان أطالب بنظام يخدمنا كلنا فعلاً
بأحس بالحجر ده بيهدد بالظهور لما بافتكر منظر أعضاء حزب التجمع اللي سحلوهم ادامنا البلطجية، واحد منهم كان شايلينه اتنين من ايديه واتنين من رجليه. واحد تاني اتضرب على دماغه، واحد اتلطش قلم، واتضرب على رقبته، وعلى راسه وصدره وجروه برضه معاهم، وغيره وغيره وغيره. كل ده وماكانش لسه أي حاجة حصلت فعلاً.
بأحس بالذعر لما بافتكر إن إحنا كنا كل شوية نتلفت حوالينا علشان نتطمن إن وسائل الإعلام العالمية بتصور ده كله، إزاي بقوا الناس دي مصدرنا للعدالة والخلاص؟
لما جيش مؤيدين مبارك ظهروا بأعداد كبيرة، شكلهم وحركتهم زي الديناصور، شوية شوية هيدوسونا، رغم إن بعد كده سنية قعدت تقول: "كانوا كتير أوي...حسسونا إننا مهزومين، إننا متحاوطين..." لكن أنا ما أظنش إن ده السبب إن هتافاتنا كان صوتها أوطى أو سكوتنا أطول...ولا علشان إحنا كنا متحاوطين: هم كانوا ادامنا، الحيطة ورانا، أمن الدولة جنبنا...لكن أنا متهيألي رد فعلنا ده كان بسبب الصدمة
في فرق بين إنك تتخانق مع "الحكومة"...إنك تتخانق مع "الأمن"...وبين إنك ببتخانق مع مجموعة من المواطنين العاطلين المقهورين تماماً...ضحايا النظام الحقيقيين...إزاي إحنا بقينا واقفين ضد بعض؟؟ إزاي بقى كل غضبهم ده موجه ضدنا؟؟
فجأة لقيناهم بينطوا على العربيات، وبياخدوا مننا اليفط وبيقطعوها، وبيشتمونا على إننا "عملاء أمريكان" وعمالين يهتفوا ويقولوا "حسنيييييييييييي حسنيييي" زي إعلان ايريال! كل ده كان كفيل إنه يجيبلنا حالة من الذهول التام
في آخر اليوم، لما اخدنا فلوكة وقعدنا نتكلم عن أحداث اليوم، وخصوصاً عن محاولاتنا إننا نصوت أو ما نصوتش، المراكبي بتاع الفلوكة سألنا إذا كنا بنتكلم عن التصويت بتاع النهاره. وطلب مننا نشرح له الدايرة الحمرا معناها إيه والخضرا معناها إيه. اجبروه إنه يصوت، هو وباقي المراكبية، هو اختار الدايرة الخضرا علشان كان شكلها كويس. كانت إيه بقى الدايرة الخضرا؟
بعد كده، وبعد ما قعدنا نتناقش معاه، قال لنا إن الحكومة بتعمل اللي عاوزاه أياً كان: "أول مرة في حياتي يخيروني، ولما خيرونا، خيرونا بالعافية
اتكلمنا عن الحقوق، عن الانشقاق، عن العمل علشان تحقيق الحاجات اللي بيؤمنوا بها، والعمل ضد الحاجات اللي مش بيؤمنوا بها...إزاي إن دي بلدنا إحنا...وإن هم مجرد قلة حاكمة
"قال لنا المراكبي: "إحنا ناس صغيرين...والناس الصغيرين مايقدروش يعملوا حاجة
أصرينا وقلنا له أد إيه إحنا دلوقتي ناس صغيرين لكن كتار، وإن أد إيه مهم إننا نعرف إننا ممكن نعمل حاجة فعلاً
راح المراكبي شاور لنا على كوبري بعيد...كوبري عباس...وشرح لنا إزاي مجموعة من "الناس الصغيرين" قرروا يدافعوا عن الحاجات اللي بيؤمنوا بها: مشيوا من جامعتهم لحد الكوبري واتضربوا بالرصاص واتحدفوا من فوق الكوبري...واحد ورا واحد وقعوا من فوق الكوبري في الميه...واحد ورا واحد...وفضلت إيديه تشاور على الكوبري، وعينيه ورا رحلتهم من القمة للقاع
لفترة قصيرة كده حسينا بالحماس وقت الهتافات لما كانت عالية وقوية وبتعبر عن كل حاجة إحنا اكتفينا منها: كفاية حسني ملارك، كفاية تزوير أصوات، كفاية أسعار مرتفعة، كفاية فساد، كفاية فتحي سرور، كفاية للبلطجية...واستمرت الهتافات...والناس كل شوية تضيف حاجة لقايمة الحاجات اللي اكتفوا منها وكل الناس مرة واحدة يهتفوا مع بعض: "كفااااااااية"
وبعدين بيرجعلي إحساسي بالذعر لما بافتكر كلاب الحزب الوطني وهم بيتسللوا بين الأمن وعلى سلالم نقابة الصحفيين...وبيتحركوا بشويش وبيطلعوا سلمة سلمة...وعمال عددهم يزيد...في نفس اللحظة دي أدركنا إن النقابة هتخلينا ندخل...وبرضه مابقيناش عارفين نروح فين...وكل الكره ده والرغبة في الأذية موجهة ضدك. بعدين قالوا لنا إننا لازم ننط من الجنب، وإن الأمن هيساعدنا ننزل...وإن الأمن هياخد باله مننا...وفعلاً...نزلونا على الآخر
الأحاسيس والمناظر والتجارب والأحداث اللي حصلت بعد كده كانت بشعة...وأبشع دلوقتي لما بافكر فيها عن ساعتها
وكل واحد مننا سواء أصيب إصابات صغيرة أو كبيرة...كان برضه حظه أحسن من ناس تانية كتير في اليوم ده...إحنا ما اتحبسناش ولا اتعرضنا لكم الإهانة اللي اتعرض لها بنات وأولاد تانيين...بس رغم كده حسينا بالإهانة والإحباط والخيانة
في آخر اليوم لما أنا ونورا قابلنا سيف الإسلام من مركز هشام مبارك..حسيت إن أخيراً قابلت إنسان "كويس"..بجد إنسان كويس...إنسان بيدافع عن حقوق الناس، وعن سلامتهم وأمنهم، وبيحاول يضمن إنهم أخدوا حقهم...مقابلته رفعت معنوياتي وسط ده كله
أحمد سيف الإسلام كمان عنده خبرة ومعرفة كبيرة، ودراية بكل الأحداث اللي كانت حوالينا، وبكل اللي ورا اللي بيحصل يومها. ساعدنا إننا نفهم اللي حصل وبيحصل، وجاوب على كل علامات الاستفهام اللي جت في بالنا، وعمل كل ده بطيبة وذوق مختلفة تماماً عن كل اللي شفناه يومها...شخص دافي جداً كده...ووجوده إدانا إحساس بالحضن والدفء...فجأة حسينا بالأمان وبالثقة. بعد كده نورا حكت لي حكاية سيف، ومحاولته إنه يعمل تغيير بجد، إنه يدافع علشان الحاجات تكون صح زي ما مفروض تكون...إنه يحط رجليه على الأرض...والخمس سنين اللي عانى فيهم من التعذيب بعد ما اعتقل...نورا حكت لي حكايات أنا ماكنتش متخيلة إنها ممكن تحصل
يبقى ممكن يطلع من كل الألم والإهانة والخيانة حاجات حلوة كتير. أحمد سيف الإسلام درس الحقوق وهو في السجن، ودلوقتي يقدر يساعد كل اللي بيدافعوا عن الحاجات اللي بيؤمنوا بها، وبيحاول ينقذهم من كل الحاجات اللي اتعرض لها...ألمه ألم بنّاء...وخرج من تجربته زي جنينة جميلة...دافي جداً زي الحضن
بعد كده حضرنا اجتماع لكل الناس اللي اتقبض عليهم وأفرجوا عنهم في اليوم ده. كلهم كانوا إيجابيين جداً وخُفاف كده...زي ما يكون اللي حصل ده حاجة عادية...لأ ما أظنش إن الموضوع له علاقة بكون إنهم متعودين على الحاجات دي...الموضوع موضوع إحساسهم إن كل ده ضروري...مافيش صراع بيبقى سهل...مافيش تغيير بيجي من غير "نزع" و"نزاع"
كان في ممثل من حزب العمل...واتكلم عن الوحدة والتضامن، وعن الحاجة للإبداع والإصرار والتكاتف...وعن الأيام السودا اللي جاية...وإن الأيام السودا دي هي طريقنا عبر نفق ضلمة طويل هيوصلنا في الآخر للنور
أنا مش حاسة إني كويسة. بجد. أنا حاسة إن جوايا قبح كتير. لكن ماعنديش أي إحساس بالندم. وده في حد ذاته بيحسسني بالذنب علشان كل الحاجات اللي ماحصلتليش بجد، وعلشان أنا ما اتعرضش لأي درجة من الدرجات المختلفة للمعاناة والإهانة اللي التانيين اتعرضوا لها
أستاذ سيف حكى لنا على واحدة كانت معدية (طالبة رايحة تحضر دورة في النقابة)، وكلاب الحزب الوطني قلعوها هدومها في الشارع، وهي جاتلها حالة هيستيرية وقعدت تعيط وتقول: "دي مش مصر! مش مصر دي!" حكت له على اللي حصل لها، وإن الأمن خلاها تدخل النقابة وسيّب عليها 5 أو 6 رجالة من بتوعهم، هجموا عليها واعتدوا عليها وقلعوها هدومها على سلالم النقابة قبل ما حد يقدر يمد إيده يسحبها لفوق. وهو بيحكي لنا عليها، لقيت نفسي حاسة بها، وبافتكر وأنا بأقول لنفسي: "إحنا في مصر، لما يقربوا منا مش هيأذونا...أكيد مش حيعملوا فينا حاجة... أكيد...أصل كمان إحنا ما عملناش أي حاجة لهم
فكرة إني "بنت" كانت مشجعاني علشان ابقى صبورة وقوية. مش هيأذونا فعلاً. مش هيأذونا.
النكتة بقى إن ده نفس الكلام اللي أنا قلته لنفسي سنة 1998 في أول مظاهرة أحضرها في حياتي، يا دوبك قبل ما أمن الدولة ما ياخد الإشارة وينزلوا فينا طحن وعجن
إزاي حصل كده تاني؟
الغريبة إني المرة دي خرجت من التجربة بإحساس قوي بإني صاحبة حق. إحساس إن مصر دي ملكي.
"بتاعتى ومش هاسيبهالكم". إحساس رائع بالتضامن. إحساس جميل جداً إني كنت هناك مع أصحابي. كان عندي إحساس بالتكاتف واللمة علشان كلنا كنا في مظاهرة واكتشفنا إننا زي بعض جداً وبيننا حاجات كتير مشتركة...من حيث المشاعر والأحاسيس والمواقف...بينك وبين كل اللي حواليك بغض النظر عن اختلافاتكم. لكن كان في شعور قوي بالتضامن إني أكون هناك مع أصحابي، إني ابقى متأكده إن في حد هياخد باله مني ومن باقي الناس...الإحساس بالتضامن جالي من وجود ناس اتكلم معاهم أكتر عن كل الحاجات الجميلة وكل الحاجات القبيحة...جالي الإحساس ده علشان لقيت ناس زي أستاذ سيف ألجأ إليهم لما حسيت إني فجأة فقدت الثقة، ولما حسيت إن بدل الدفء والسلام والنية الكويسة بقى في تيار بارد ومؤلم من الكراهية والإهانة، تيار من جوه ومن بره
كدماتي لسه بتوجعني، ومش حاسة إن رجليا على الأرض زي ما مفروض يكونوا، لكن نيتي قوية لسه، مش بس كده...أنا حاسه إني جزء من كيان أكبر بكتير وأفضل بكتير...حاسه إني فعلاً بأدافع عن حاجة تستاهل...حاسه إن إلهامي ودوافعي مش بس أنا أو القضية...لكن كل الناس اللي كانت معايا، والكرامة والصدق والقوة والشجاعة اللي كلهم أظهروها ادام كل الكم ده من القبح...كل ده هو اللي بيديني القوة بجد
كان معايا نورا ودينا وزينب وياسو ومنجي وسامر ورباب، ومروة وسلمى كمان
يمكن رجليا مش على الأرض بثبات خالص، لكني حسيت بكل القوة والصدق والإصرار والشرف والكرامة من خلالهم. بصراحة، في المرحلة دي من أفكاري وتجاربي، حاسه إنهم كلهم كانوا عوامل إيجابية في تجربة إمبارح، وخفة الدم والتواضع والشجاعة أثناء كل الاضطراب الجسدي والفكري اللي عانيت منه
في قوة كبيرة في التكاتف وصدق النية بتطغى على أي حاجة...وبتخلي فعلاً الناس الصغيرة...كبيرة أوي
________
ملحوظة: كتبت علياء مُسلّم هذا المقال بالإنجليزية عن تجربة مشاركتها في الاستفتاء يوم الأربعاء الحزين 25 مايو. استأذنت علياء في أن أقوم بترجمته للعربية حتى يستطيع أكبر عدد من الناس أن يطلعوا عليه، فسمحت لي بحماس جميل. فضّلت أن انقل المقال للعامية - رحاب بسام